تطور العلوم النقلية إبّان عصر الازدهار
علم القراءات:
موضوع هذا العلم يتمثل في وضع الضوابط والمعايير لكيفية قراءة القرآن الكريم قراءة صحيحة، نظراً لاختلاف اللهجات في نطق الألفاظ العربية باختلاف القبائل. وقد ازدادت الحاجة لتلك الضوابط بعد أن شاع اللحن في القراءة بين الموالي، أي المسلمين من غير العرب.
وغني عن القول أن الصحابة أنفسهم تعددت قراءاتهم قبل جمع القرآن واعتماد مصحف عثمان بن عفان. لذلك كله جرى وضع ضوابط لتبيان وتحديد القراءات الصحيحة والمعتمدة.
وقد تأثرت تلك الضوابط والمعايير بمعطيات سوسيولوجية. وحسبنا أن ظهور هذا العلم ارتهن بالصحوة البورجوازية الأولى التي أفرزت ظاهرة تأسيس وتصنيف وتدوين العلوم. كما اكتملت علميته في عصر الصحوة البورجوازية الثانية على يد ابن مجاهد حوالي عام 300هـ.
يظهر التأثير السوسيولوجي كذلك في فرز القراءات المختلفة واعتماد الصحيح منها. فالاتجاه النصي قصر الصحيح على سبع قراءات فقط، بينما زادها أصحاب الاتجاه العقلي إلى عشر قراءات، ووصل البعض بها إلى خمس وعشرين قراءة.
أما قراءة القرآن باللحن فقد رفضت من قبل المذاهب النصية، كالمذهب المالكي، بينما جوزها المذهب الشافعي في صيغته المتطورة نحو الأخذ بالرأي ـ كما أوضحنا سلفاً ـ فضلاً عن المعتزلة.
من تأثيرات السوسيولوجيا أيضاً تبادل الاتهام بين السنة والشيعة بالخروج عن تعاليم الإسلام واتباع أهواء الحكام. فبينما اتهم الشيعة قراء السنة ((بالطمع وسوء السمعة)) لمحافظتهم ووضع ضوابط القراءة استناداً إلى اللغة العربية في أحوالها الأولى وتجاهل ما لحقها من تطوير على يد الموالي، استجاش قراء السنة الخلفاء العباسيين ـ في عصر الإقطاعية ـ للتنكيل بقراء الشيعة. يستفاد ذلك من واقعة ضرب الوزير ابن مقلة القارئ ابن شنبوذ (ت 328هـ ) بالسياط لأن قراءته كانت مخالفة لمصحف عثمان، على الرغم من أن هذه القراءة لم تكن شاذة. والراجح أنه أقدم على فعلته لكونه صاحب مدرسة في الرأي تعول على الاجتهاد ورفض التقليد.
من تلاميذ هذه المدرسة محمد بن أحمد بن إبراهيم (ت 388هـ ) الذي راجت آراؤه في عصر الصحوة البورجوازية الثانية، وأبو بكر العطار (ت 354هـ ) الذي قرأ القرآن بطريقة مبتكرة ويرهن على صحتها باستخراج وجوه من اللغة، وذلك في كتابه ((الاحتجاج للقراء)). ولا غرابة في سيادة الاتجاه العقلاني في هذا العصر، حتى أن قراء الشيعة والمعتزلة صنفوا كتباً تعول على القياس في زيادة عدد القراءات الصحيحة.
حدث هذا في الشرق الإسلامي. وبديهي أن تمتد الأصداء إلى الغرب الإسلامي، خصوصاً فيما جرى من صراع بين القراء السنيين وقراء الشيعة. ففي عصر ((الإقطاعية)) اتبع قراء الأندلس من المالكية ما أتبعه إخوانهم في الشرق. وفي عصر ((الصحوة)) بدأت تتكون مدرسة مستقلة في القراءات من أعلامها عثمان بن سعيد بن عثمان الداني (ت 444هـ ) الذي تعددت تواليفه في علم القراءات وراجت رواجاً كبيراً حتى عدل الناس عن غيرها. وليس أدل على انفتاح مذهبه في القراءات من عنوان كتابه المعروف بكتاب ((التيسير)). من أعلام هذه المدرسة أيضاً مكي بن أبي طالب القرطبي (ت 437هـ ) الذي كرس إجادته العربية في ابتكار قراءات جديدة، كما أفاد من تبحره في علم التفسير في تجويد تلك القراءات معولاً على فهمه الحصيف لمعاني القرآن الكريم.
هكذا تطور علم القراءات في هذا العصر متأثراً بمعطيات سوسيو ـ سياسية